حين أرسل الله محمدا صلي الله عليه وسلم إلي امته أرسله ليتلو عليهم الآيات وليعلمهم الكتاب والحكمة. وليزكي نفوسهم ويصفيها.
وأسلوب التربية يقتضي ان يبين الله عز وجل للناس طبيعة نفوسهم. وماجبلت عليه من خير وشر كما يبين لهم المنهج الذي اختاره لهم واراد منهم ان يسلكوه ثم يبرز لهم بعض المؤثرات التي تؤثر علي نفوسهم فتدفعهم الي معاندة المنهج ثم يبين لهم نتائجها اذا انحرفت بأصحابها. كما يبين لهم النتائج التي يحصلها اولئك الذين يسيطرون علي المغريات ويستقيمون علي الجادة.
والصورة المعقولة التي نعرضها اليوم خلاصتها علي النحو التالي: وهي ان الله حين خلق الناس كانوا في أولهم أمة واحدة.. ثم تنازعتهم الاهواء والاغراض فاختلفوا وكان من الممكن لو قد شاء الله عز وجل ان يحسم بينهم الخلاف ولكن سبقت كلمة الله عز وجل واقتضت حكمته انهم يزالون مختلفين الي ان يقضي الله امره ولقد جاء المعاندون لرسول الله صلي الله عليه وسلم بتلك الاحاديث الخالية من اللياقة فقالوا له ولمن يسمع: لولا انزل عليه آية من ربه فتوعدهم الله عز وجل حين قال لنبيه ان يقول لهم: إنما الغيب لله.. وأن ينتظروا الموعد وانه معهم من المنتظرين.
وسبب هذه الغطرسة وهذا الغرور ان الله قد أنعم علي هؤلاء بالاموال والبنين. واسباب التميز عموما والتي نراها في الدنيا فظنوا ان هذه الاشياء ستدوم لهم ولم يلتفتوا الي السنة الكونية والاجتماعية فيما حولهم فالواحد منهم يركب البحر او ينظر لمن يركبون البحار فتهيج بهم الامواج وتعصف بهم الرياح ويزول عن الفطرة الانسانية غبار قد تراكم عليها بفعل الزمن ونسيان حقيقة الفطرة فلجأوا الي ربهم وعاهدوه لو قد أنجاهم مما هم فيه لاستقاموا علي الطريقة فحين ينجيهم يعودون لما كانوا عليه.
والحقيقة الكبري الكامنة خلف هذا الانحراف هو اغترار المعاندين بالدنيا وهي لاتدوم. واعتزازهم بأسباب تحصيل معايشهم والاسباب والمسببات سنن لم تخرج عن آثار قدرة الله فيها.
تلك هي الصورة المعقولة التي يقدمها الله عز وجل ضمن إطار منهج الاصلاح والذي يجب علي كل انسان عاقل ان يستوعبها.
وقد تكون هذه الصورة المعقولة متأبية علي الفهم. فتحتاج الي مثل محسوس ليكون بمثابة وسيلة الايضاح التي تقرب المعقول الي الذهن وتعين علي فهمه والصورة المحسوسة هي تلك الصورة التي يدركها البدوي وساكن المدينة او القري علي السواء.
فهذا الماء ينزل من السماء بمواصفات خاصة فيختلط هذا الماء بتربة الارض او يختلط بهذا النبات الذي وضع في تربة الارض. أو يختلط بهما معا فهو يختلط بتربة الارض فينال من صلابتها ويجعل عناصرها في حالة تكون من البساطة بحيث يسهل علي النبات امتصاصها.
والماء النازل من السماء يخالط النبات كذلك حين يمتصه النبات مع عناصر التربة او يسقط علي ورقة فيستفيد النبات به من خلال عملية التمثيل الضوئي.
والتعبير القرآني قد حكي ان الماء ينزل من السماء فيختلط ولم يوضح لنا ان الماء يختلط بالتربة او بالنبات ليترك للعلم الحكم. حسب العصر الذي يحكم اهل العلم فيه ولابأس عند اهل العلم ان يكون الماء النازل من السماء قد اختلط بالتربة او اختلط بالنبات او اختلط بهما معا.. "وسبحان من هذا كلامه"
والمهم الذي ينبغي ان نلتفت اليه ليكتمل المثل بين ايدينا ان الماء عندما خالط الارض والنبات اهتزت الارض وربت واستعادت فتوتها وازينت.
والارض حين تتخذ هذه الصورة يظن المرء انه هو القادر علي ان يمنح الارض صورتها ويعطيها زينتها وانه هو المالك لاسباب الحياة المانح لها فتحيط به حالة من الغرور التي تحيط بكل انسان هيأت له نفسه انه هو المستقل بصناعة القرار.
وحينئذ ينزل القضاء بهذه الارض النضرة وتسبق الارادة الالهية الي هذه الحقول الغناء فتصيبها آفة من السماء او يستكمل هذا الزرع مدته في الارض فينظر الناس الي هذه الحقول فيجدون كل واحد منها حصيدا كأن لم تكن هذه الحقول غناء بالامس.
والارض الحصيد هي تلك الارض التي نالت منها المناجل فقطعت زرعها من اصوله فتحول وجهها الاخضر النضر الي وجه اسود نكد وتحولت اسباب الحياة فوقها الي آثار دمار وتخريب.
هذا هو المثل المحسوس وتلك هي وسيلة الايضاح لصورة الحياة الدنيا التي نعيش فيها فتخدعنا بهجتها وهي الي زوال.
وهذا هو مصير الانسان ولنذكر بين يديك الصورة المحسوسة التي ذكرها القرآن للدنيا ثم نتيجة الاقبال علي المنهج واستدباره لتقرأ أنت الآيات السابقة عليها فيتضح لك المقام.
يقول الله تعالي: "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتي إذا اخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون".